رحل الشجاع.. وداعاً جميل مومنة
أشرق الصباح في قطنا وظهرت خيوط الشمس عند قبر جديد في المقبرة، تركوه ليلاً على أصوات التكبيرات والغضب وشتم القتلة، بقي صامتاً كعادته، فهو قليل الكلام، شديد الأدب ويحمل في ملامحه سمار البلد وصعوبة الحياة، تعودَ الفقدْ مع المئات من الشهداء الذين غادرونا.
ودعته أمه ليلاً مع الجموع، لكنها لم تزل تنتظر عودته فجراً من نوبته في الحراسة، وأولاده يتراكضون إلى الباب لرؤيته عندما ينادي "يا الله يا الله"، خيب رجاءها ولم يعدْ، فقد كان الطريق إلى السماء طويلاً ومتعباً.
التعب الليلي في حراسة الناس والسهر على أمنهم ليس جديداً على أبو الوليد، كان يحفظ الطرقات البرية، كان دليلنا الأساسي في السير من قطنا إلى القرى المجاورة بيتما - بيت سابر - كفر حور - بيت جن - خان الشيح - دروشا في سنوات الثورة الأولى، يحمل جعبته وسلاحه ويمشي أمام الشباب الباحثين عن فرصة في صفوف الثوار.
مرة، في الطريق الطويل، القمر يضيء الدرب، نحمل صناديق الرصاصات على الأكتاف لتوصيلها إلى الرجال، مسافة 6 كيلومتر، الجسم الطري لم يستطع حمل نصف صندوق، سارع جميل لحمله مع صندوقه أيضاً، بالله ثم بهؤلاء انتصرت الثورة.
مرة خرجنا في الطريق، فإذا بالراجمة بدأت تضرب، قال للمجموعة المكونة من 5 أشخاص لنعد، فقد يكون الكمين موجوداً، عدنا، جميل كان مرشد الطريق ويشمُ ريح الغدر، وبذلك نجى الكلْ.
في الطريق إلى لبنان، جبل الشيخ شديد الوعورة والارتفاع، تحمل البغال الشباب الجرحى، يمشي جميل ويحرسُ الجريح خوفاً عليه من الوقوع، وبهمة عالية يصعد الجبل سيراً، وهذا لا يحسنهٌ إلا أبناء الجبال والشمس، ومن تشرب الهمة في حليب أمه.
في الصورة اصطاد أرنباً، من يعرف الصيد، يعرف كم يحتاجُ إلى نباهة وتركيز وسرعة بديهة، انظروا من فقدتْ البلد، وفقدانها كبير.
رعى الغنم مثل الأنبياءْ، فعرف الطريق: طريق التحرير، طريق الثورة، طريق الحق، طريق الإمداد، وها هو يعرف طريق الشهادة اليوم.
في مقاعد الدراسة، لم يكن جميل طالباً مجداً، يحب الحقل والشمس والحرية والشجاعة، أمثالي ممن يحبون الدراسة جبناء لا يميلون إلى المخاطرة، جميل وأمثاله هم أبناء الموت والتضحيات والشهادة، يسارعون لبذل كل شيء لأجلنا، وعلى عادته، كان في الطريق حينما دعته الثورة، وحينما طلبه الواجب، فهل نردُ الدين الكبير يا تُرى؟
في القلب غصة، منذ وصول الخبر، كان آخر لقاء قصيراً جداً، قال لي أبو الوليد: أهلين أبو خالد اشتقنالك، هل يعرف كم سيشتاق له الكلُ اليوم؟ هل يعرف، نعم يعرف فالشهيد حي في القلب، حي في القرآن، حي في الدنيا والآخرة.
قال الله له ونحسبه عند الله كذلك:
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، صدق الله العظيم.
رحم الله شهيداً جميلاً، اسمه في العالمين: جميلْ