الشهيد أمجد سعيد القادري
لا يمكن أن نتحدث عن الشهيد أمجد سعيد القادري دون أن نتحدث عن والديه، فلقد كانا مثالاً يمكن أن يشار إليه بالبنان إلى ماشاء الله من الزمان.
في يوم العزاء أو التهنئة كما يفضل أهالي شهدائنا أن يسمَّوه، تحدث الأب بكل ثبات ورضا: كيف استأذنه أبناؤه الثمانية في الانضمام إلى الثورة، ودعا لهم بالتيسير، وكانت العبارة اللافتة في حديثه قوله على لسان الأبناء" إذا أردتم أن نكسب رضاكم، فدعونا نخرج.." وحين قال الأب" أمه أقوى مني" قال الشيخ الذي يصغي إلى الأب الحزين الصابر" نشهد أنها ربَّت رجالاً" .
ثم دعا الأب لأبنائه بالقبول والنصر، وذكّر الحاضرين بجرائم النظام التي استوجبت قيام الثورة ثم المواجهة العسكرية.
نبذة عن الشهيد:
ولد أمجد سعيد القادري عام 1982في مدينة قطنا جنوب غربي دمشق، وهي منطقة ذات حساسية لموقعها العسكري، وللتنوع السكاني فيها، حتى لتكاد تعبّر عن سورية كلها، وقد تزايدت فيها أعداد النصيريين( العلويين) بعد مجيء البعث للسلطة سنة 63، بحكم تزايد إقبالهم على الجيش، فكان عدد كبير منهم يفرز إلى معسكرات قطنا.
وآل القادري عائلة كبيرة معروفة في قطنا، وبطلنا أمجد هو السادس من ثمانية إخوة، اختاروا جميعاً طريق الثورة، بمباركة من الأبوين الصالحين الشجاعين، اللذين اضطرا إلى مغادرة قطنا بعد أن أصبح كل الأبناء مطلوبين.
وصل أمجد إلى المرحلة الإعدادية، كان محباً للحق والعدالة، يحترم كل من يكبره، حتى من إخوته، قوي القلب لا يكاد يعرف الخوف: " أقسم لك أنه عندما اعتقل الوالد، كان أمجد قد جهز نفسه لاقتحام المفرزة وحده مع حلول الظلام وذهب لوداع الوالدة، وكان قضاء الله أنه بعد المغرب تم إطلاق سراح الوالد"
كان أمجد رحمه الله تعالى ينوي أن يبدأ مشروع خطبة وزواج، ثم صرف النظر تماماً بعد قيام الثورة.
بدايات العلاقة بالثورة
لما قامت الثورة كان أمجد ما يزال يعمل في السعودية، لكنه سرعان ما غادرها في بداية الشهر السادس من سنة 2011، لينضم إلى صفوف الثوار في قطنا.
وبعد سقوط أول ثلاثة شهداء في قطنا؛ حمل السلاح وأصبح يخرج لحماية المظاهرات السلمية، ولحصوله على أول سلاح قصة لا تخلو من طرافة، فقد كان هنالك عسكري برتبة رقيب، يتجول في دوار قرب سوق الثلاثاء في قطنا، الواقع خلف فرع الشرطة العسكرية، يحمل بارودة روسية مع جعبة، ويطلق النار على الناس الذين يمرون في تلك المنطقة.
كمن أمجد للرقيب في الغيضة المتاخمة للدوار، ثم تسلل منها في إحدى الليالي وهجم عليه وسحبه إلى داخلها، واستولى على سلاحه، وضربه ضرباً مبرحاً، ولم يشأ القضاء عليه حتى لا يزيد من جو التوتر الذي يسيطر على قطنا، وخوفاً من أن ينتقم النظام من أهله كالعادة.
ومن يومها صار أمجد يخرج متدثراً بعباءة، يخفي سلاحه تحتها، لحماية المتظاهرين.
الأمير القائد
وتوالت الأحداث في قطنا، مثل كثير من المدن الصغيرة التي عمتها المظاهرات، لتقتحم المدينة وتهدم بيوت وتحرق وينتصر( الجيش العربي السوري الباسل) على الإمارة السلفية، ففي فقرة من مقالة طويلة على موقع روسيا اليوم، نقرأ نقلاً عن مصادر النظام السوري، أخباراً عن إمارة قطنا، التي تم القضاء عليها خلال ساعات قليلة، والقبض على مئات الإرهابيين، ومنهم أميرها أمجد القادري..
جاء في المقالة:
" ... وبعد إعلان الإمارة أُعلن عن تعيين أميرها "أمجد سعيد القادري"وعن أميرة يعتقد أنها من نفس العائلة، وجرت مراسم تعيين الأمير بامتطاء "القادري"الخيل وهو يجوب شوارع قطنا لكي يعترف به الناس أميراً عليهم، وهذه الطريقة هي إحدى الطقوس المتبعة في تعيين الأمراء.."
في أخبار لاحقة اعترف النظام بخطئه وأن الأمير كان أحمد، وليس أمجد..وحقيقة الأمر أن أياً من الأخوين لم يعتقل بعد الثورة، إنما اعتقل أحمد ستة أشهر في الذكرى الأولى لموت حافظ أسد، حين أرغم خطيب يوم الجمعة على النزول عن المنبر في جامع الغلاييني، وكانت خطبته في مديح حافظ والإشادة بالممانعة والمقاومة..وقال أحمد مؤنباً الإمام المذعور: هؤلاء نهبونا وأذلونا وأفقرونا وباعوا الجولان، كان أولى بك أن تمتدح محمداً صلى الله عليه وسلم وأنت على منبره .
وكان أمجد أميراً بحق في عيون إخوانه من مقاتلي كتائب الصحابة، لما عرف به من شجاعة ورووا عنه قصص بطولة وإقدام، حتى لقبه قادة الألوية بصياد الشبيحة، كما كانوا يطلقون عليه اسم الجارح.
ومن أخباره المدهشة أنه تمكن في إحدى عملياته من أسر تسعة من الشبيحة، وتفصيل ذلك أنه بعد استيلاء كتيبته على مضاد للدبابات لأول مرة، توجه هو وشاب من القنيطرة لاستهداف بعض الدبابات الموجودة في المنطقة، وبينما هما عائدان فوجئا بنقطة للنظام، وكان معهما مكبر صوت، فأمسك به الشاب المرافق وصاح: سلم نفسك ياعسكري المكان محاصر، فتم قنص عنصرين، وألقى البقية سلاحهم، وسلموا أنفسهم، قبل أن يعرفوا أن المحاصرة كانت من قبل شخصين فقط.
وكان له دور كبير باقتحام القطع العسكرية في مناطق الريف الغربي، وكان قائد إحدى المجموعات بكتائب أسامة بن زيد.
وكان أمجد ورفاقه نقلوا مواجهاتهم مع النظام، بعد ما كان من اقتحام قطنا، وإحراق بعض بيوتها وبساتينها، ومحلاتها التجارية؛ إلى مناطق أخرى قريبة نسبياً، تابعة لمحافظة القنيطرة.
يوم الشهادة:
وصف حاجز أبو شطة في قرية جباتا الخشب من محافظة القنيطرة بأنه من( أقذر) الحواجز، فعزم مقاتلو كتيبة أسامة بن زيد، بقيادة الشهيد أمجد، بالاشتراك مع عدد من أبطال كتيبة أحفاد الرسول بقيادة أبي علي الجناني ؛ على تدميره، وبعد أن اتخذوا موقعهم، أطلق الشهيد النار من قاذف آر بي جي، وكان ماهراً في استخدامه، رمى رميتين، وصاح أصبته؟ ثم تناول الروسية تاركاً القاذف لمن يحشوه مجددا، وتقدم هو وأبو علي وثالث اسمه راكان، وكانت نيرانهم الأولى قد كشفتهم لقناصة كانوا في بناء يشرف على الحاجز، لم يتبينه الثوار في الظلام، ولم يكن بين الفريقين إلا حوالي عشرة أمتار، ولعله لذلك صار أمجد يصيح( هدّوا..) ويأمر بعدم إطلاق المزيد من النار، لكنه أصيب فورا، ولم يشعر إخوانه باستشهاده إلا حين أرادوا تسليمه القاذف من جديد، فلما اكتشفوا صاح أبو علي ياراكان استشهد أمجد، وبدا يطلق النار ويكبر، ويقول: لن أتركك تستشهد وحدك، فألقيت قنبلة على أبي علي، وسقط قريباً من أمجد، وكانا كالأخوين، وقد تعاهدا على الشهادة معا، فتم لهما ما أرادا، ثم اقتحم الحاجز شابان آخران واستشهدا، فكان مجموع الشهداء ستة.
تابع بقية الأبطال مهمتهم، وقضوا على القناصة ودمروا الحاجز تدميراً كاملاً، واستولَوا على مافيه .
زغردت أم الشهيد لحظة وصلها الخبر بعد ساعة، وصبرت واحتسبت كما هو متوقع منها، وهي التي أذنت لأبنائها ابتداء بالخروج بل باركت خروجهم. ورأينا الأب صابراً يحدث المعزين بابتسامة مهيبة تنطق بحزنه..
تشييع البطل
أعلن عن استشهاد الأبطال الستة في مئذنة مسجد في جباتا الخشب، مع ذكر مناطقهم.
وشيع الشهيد يوم 27- 11- 2012، في جباتا الخشب، في مشهد بسيط مذهل في نقائه: أرض ترابية وعرة وسماء حزينة وتكبيرات وصوت متهدج يهتف بصوت مبحوح: لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله .. شبان طيبون يمسحون دموعهم، وثلة من الأبطال تدور بجثمان الشهيد فوق الرؤوس مع جثمان آخر، ثم تتجه به بمحبة وعزيمة نحو مثواه الأخير، مقبرة بسيطة على أطرافها سور متهدم.. وقد تلاصق فيها عدد من القبور.
جنازة صغيرة باكية تعبر عن يُتْم ثورتنا في مواجهة العالم الذي خذلها، بينما كان كل تشييع قبل الحرب يتحول إلى احتفالات بل مهرجانات من الإنشاد والحركة وزغاريد النساء ونثر الزهور، وتزيين الجنائز بالأغصان والورود، في مشاهد باهرة غنية تعبر عن التحدي والإصرار على الاستمرار.
كلمات أخيرة
تجد للشهيد كثيراً من التسجيلات المؤثرة، وصوراً له مع سلاحه دائماً، بوجه حازم وثقة بالنفس بادية.. كما تجد صوراً لجثمانه المزين بالأغصان الخضر..يرافق كل تسجيل أناشيد المجاهدين التي أصبح بعضها جزءاً من ذاكرة شباب عشقوا البطولة منذ سنين، ولم يصدقوا أن دورهم حان في حمل السلاح.. ليشفوا صدورهم ممن قهرهم وعاث فساداً في البلاد، وحكمهم بالحديد والنار.
تلقت كتيبة أمجد التهاني بشهادته، من حماة وحمص وريف دمشق ودمشق وإدلب وأغلب كتائب الجيش الحر والتنسيقيات.
"..كان هدف أمجد هو نصرة دين الحق ونصرة المظلوم والجهاد في سبيل الله، آخر كلمة نطقها قبل استشهاده بثوانٍ كانت الله اكبر والعزة لله"
".. كان باستمرار في الاقتحام... وله فضل كبير في الاستيلاء على الأسلحة، مثل أسلحة اللواء 90 في القنيطرة"
كل الكلام قليل في أمجد، هذا ما يراه إخوته وصحبه، وهذا ما يجده من يتتبع حركته منذ انضم للثورة، ولعله لا يفوق بطولتَه إلا بطولةُ أبوين دفعا بكل أبنائهما( الثمانية) نحو ساحات الجهاد، مؤثرَين حرية سورية وكرامتها على نفسَيهما، موقنَين بأن الثورة على حق، وأن الله مع الصابرين المخلصين.
بقلم : فاطمة محمد أديب صالح ، من كتاب سيرة مئة قمر سوري، منشورات تيار العدالة الوطني 2013