العودة الى صفحة قصص الشهداء

قصة الشهيد أحمد سعيد القادري

قصة الشهيد أحمد سعيد القادري

القائد البطل أحمد سعيد القادري ، أبو مصعب)


نعم ولادة الشهيد ، وليس مقتله ، ولادته الأولى ، انطلاقته نحو الحياة ، نحو الخلود.


هنا بدء أبو مصعب رحلته ، وهنا دخل القلوب وأقفل عليها الباب بإحكامٍ شديد ، من مدينة قطنا المحتلة عروس " وادي العجم " بدأ مشواره ، مشوار الحرية و الانعتاق من العبودية ، نحو طريق متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ، أراد أن يذكّر مع أصحابه كل الناس بهذا الدستور الإنساني العمري ، بهذه القيم الفريدة .


كانت تلك المقولة محركهُ الذي لا أحصنة محددة لصهوتها ، حتى قبل انطلاق الثورة وقف في مساجد قطنا وأخبرنا عنها ، لكننا لم نعطي لها بالاً ، اعتقلوه ولامه الناس كيف تلقي بيدك إلى التهلكة ؟ ولم ندري أن التهلكة هي لمن لا يعي ، ولمن لا يثور، وأن البطولة ، لمن لا يسكت ، ولمن لا يخنع ، ولمن لا يستكين ...


عذبوه حتى الموت ، لكنه لم يمت ، يومها قرر ألا يموت ، وإن قدر الله ومات فقد قال : لا لهم قبل أن يرحل ، فعلها ، لم يستطع ألا يضع الجزار في مكانه ، فشتمه بصوت مدوي سمعه أهل القبور ، ونحن سمعناه لكننا غضضنا الطرف عنه ، هو في الحقيقة لم يشتمه بل ذكرنا بمن هو فقط !!


ومرت السنين وخرج البطل المسكوت عنه ، وعاد إلى عمله ، عاد بروحٍ عجيبة ، بقلبٍ ضحكوك ، وثغر باسم ، لم يكن الخوف قد أكل قلبه ، فقد طلق الخوف طلاقاً بائناً بينونةً كبرى قبل ذلك لا رجعة فيه وصرخ بوجههم ، وتزوج من كلمة الحق إلى الأبد ...


خرجت درعا بأطفالها بشيبها وشبابها ، بحرائرها وعجائزها ، لم ينتظر قطنا المحاطة بأسلاك الطائفية والعسكر ، فحمل روحه واتجه نحو مساجد دمشق مع ثلة من ثوار قطنا ، وكان أول من يظهر على شاشة الجزيرة من أمام مكتبها في حي المزة ((في جمعة العزة 25/3/2011 ))، لقد حملوهُ على الأكتاف هذه المرة ، حملوه ليكون الصوتُ مدوياً أكثر ، ليرن في أرجاء الأرض ، يومها خرجت درعا ، دوما ، معضمية الشام ، اللاذقية ، الجامع الأموي ، حمص كلهم فزعوا للدم ، وجهتهم عناية الله برفض الظلم ..

كان المنشد أحمد من كتف إلى كتف وصوته الرخيم الممزوج بصدق التعابير يهتف ، (( الله أكبر عليهم - ظلّام الله يمحيهم ، الله أكبر حرية ، أكلوا البيضة والتقشيرة وخلونا على الحصيرة ... )) والجموع تهتف حوله .


لم يهدأ أحمد ومن معه حتى جعلوا الثورة تزحف إلى قطنا ، فخرجت المدينة من صرخة شهيد آخر ، ( الشهيد أبو عبد الله كنجو) ، الذي هز جامع الغلاييني من صدقه في أول تكبيرة للحرية ..


خرجت قطنا كلها وكثرت الجموع ، وبدأت المظاهرات السلمية ، حديث الساعة ، وارتدت المدينة ثوب الحرية ، ولمع اسم الشهيد أحمد القادري ، والذي بدأ يقود المظاهرات ، فلم تكن مظاهرة إلا وأحمد على رأسها ، يهتف فيها ، صوته الرنان لا ينساه أحد ، كلماته البسيطة في حروفها ، من صميم الألم والمعاناة خرجت ، عن الواقع المرير تحدثت (( يا قطنا تحيا رجالك ، الله يلعن خوانك – الموت ولا المذلة – يا درعا حنّا معاكِ للموت - صار الظلم عندون عادة وفكروا فيها عبادة )) .


أحمد كان ثائراً من نوع خاص ، له كاريزما مميزة ، صوت أجش ، أحلام كبيرة لم تتوقف ، كان يتقرب من الشباب يسمع لهم حتى تكون المظاهرات على درجة عالية من التنظيم ، وكان يجالس الكبار و يتناصح معهم ، محبوباً يحمل في رأسه قضية يريد إيصالها، ويقول (( لا داعي للشتيمة ؛ خرجنا وحملنا أرواحنا على أكفنا ، لدينا رسالة يجب أن نوصلها )) .


بعد أسابيع من مظاهرات الحرية ، بدأت المخابرات ، تعرض على المطلوبين كتابة تعهد بعدم التظاهر مجدداً ، أُجبر الحجي أحمد ممن حوله على كتابة التعهد يوم الخميس ، وخرج في اليوم التالي على رأس المتظاهرين يهتف (( وهتفنا معه .. عاشت سورية ويسقط بشار الأسد ، سورية لينا وما هي لبيت الأسد)) كان رجلاً حقيقياً .


وفي جمعة حماة الديار ، قام الحماة أنفسهم بقتل أهل الديار ، فأطلقوا الرصاص على المتظاهرين فسقط أول ثلاثة شهداء في المدينة ، فخرج أبو مصعب متحدثاً على قناة الجزيرة ، باسمه الحقيقي " أحمد القادري" .


كان الحجي أحمد من أوائل من حمل السلاح في قطنا ، بعد خمسين جريح متسلحين بأصواتهم والحجارة ، وحريقٌ طال محال المدينة على أيدي الشبيحة والمليشيات الطائفية .. لقد كانت قطنا المدينة الثائرة الأكثر تنظيماً بسبب الحجي أحمد وأمثاله ، لم تحرق بلدية أو مخفر ، ولم يهجم على ثكنة عسكرية ، ولا مقر حزب ، ولا مساكن ضباط ، لقد كانت المدينة سلمية لأبعد الحدود ، إلى يوم بدأت المليشيات تحرق وتسرق وتقتل وتطلق الرصاص العشوائي على المتظاهرين ..


بعد ثلاثة أيام ظهر السلاح الخفيف مع عدة أشخاص على رأسهم أحمد ، وقاتلوا لساعات ثم دخل الجيش المدينة ، ونُصب أحمد أميراً على إمارة قطنا الإسلامية ، دون أنْ نعلم وأنْ يعلم ، أول إمارة إسلامية في سورية ، قالوا أنّ المشانق علقت ، وستطبق الشريعة وتقطع الرؤوس ، ورفعت الراية السوداء ، كل ذلك بعد أربعة أشهر من الثورة فقط !! ، حيث لم يكن موضوع الأيديولوجيا الإسلامية مطروحاً بعد ولم يرفع أي علم سوى علم الثورة السورية ..


لقد كان حمل السلاح شعبياً وليس مخططاً ، اشتري من أموال هؤلاء الشبان الخاصة ، باعوا حلي زوجاتهم من ذهب ليشتروا قطعة سلاح ، وآخرين باعوا أبقارهم واشتروا بها ...


غاب أحمد وأصحابه عن المشهد ، وبعد أشهر عادت المظاهرات بعد استشهاد الشاب إبراهيم عودة ، وظهر الحجي أحمد فجأة من قلبها ، لقد أذهلنا برخامة صوته منادياً " يا قطنا تحيا رجالك والله يلعن خوانك ، خلي النار تولع والله لناخد بالتار " ، لا يمكن وصف المشهد من صدقه وإخلاصه ، لا تُنسى الكوفية الحمراء على رأسه ، لا تُنسى لحيته الخفيفة ولا وجهه المدور ، وأطلق الرصاص ، فتوشحوا سلاحهم ، وقابلوا شبيحة النظام ومخابراته بالنار ، وقتلوا منهم ، كانوا يريدون سرقة جثمان الشهيد فمنعوهم ، واستشهد الشاب الصغير مالك بدر الدين ..


بقي الثوار بقيادة الحجي أحمد في حي الحلالة حيث بساتين قطنا وغوطتها ، فقد كان قائد المعارك وأميرها ، ومسانداً للعمل المدني بكل أشكاله وأصنافه ، من مظاهرات ومنشورات ، من إغاثة المنكوبين وعمل طبي لمداواة الجرحى ، إلى دعم التوعية الثورية عبر مجلات وجرائد ..


لم تكن شهرة حجي قطنا ، في قطنا فقط ! ، بل في كل الريف وأنحاءِ من سورية ، تظاهرنا معه وهو يهتف في عرطوز وجديدة عرطوز و معضمية الشام و الكسوة والقدم ، حتى الغوطة الشرقية كلها كانت تسألني عن حجي قطنا ، وادي بردى بكل بلداته كان يسألني عنه ...


*****************


لم يستطع أبو مصعب أن يبقى في قطنا ، فانطلق نحو القنيطرة ، ومعه كتيبة أسامة بن زيد التي شكل نواتها في مدينته قطنا وكان ممن أسس مع أصحابه وأصدقائه "ألوية وكتائب الصحابة " في دمشق وريفها فكان من قياداتها ..


وبدأ اسم حجي قطنا ينتشر في كل مكان ، هتف من القنيطرة لقطنا ، حُملَ على الأكتاف في جباثا الخشب ، طرنجة ، أوفاني ، وهم يحررون ويتجهزون ، كانت سمعته رنانة في كل مكان ذهبنا إليه ، حتى أنهم كانوا يتناقلون عن إقدامه وشجاعته حين استشهد أخوه أمجد ، وكيف عاد بجثمانه المسروق بعد أن حرر الحاجز مع خمسة من أصحابه فقط !! .


وأُسِسَ "تجمع أنصار الإسلام" فكان من قياداته ، فإنك لا تمر من قرية محررة في ريف دمشق إلا وحجي قطنا يمر معك ، بيت جن ، مزرعة بيت جن ، بيتيما ، بيت سابر ، كفر حور ، خان الشيح ، دروشا ، حتى معضمية الشام وداريا والكسوة و البيضا إلى القدم وجنوب دمشق .

وبالبندقية الخفيفة حرروا قطع الجيش الأسدي و ثكناته ، وامتلكوا الدبابات والأسلحة الثقيلة ، حتى أصبحت كتيبة أسامة بن زيد لواءاً ، وتمددت وأصبح حجي قطنا قائد " كتائب وألوية الصحابة " في الغوطة الغربية والقنيطرة ، ثم تكاثفت الجهود بين الألوية والفصائل المسلحة في المنطقة ليؤسسوا " تحالف الراية الواحدة" وكان أحد أهم قياداته ..


يشهد الكل أنّ أبو مصعب كان دوماً في مقدمة المقاتلين ، مقداماً ، شجاعاً ، يتوشحُ سلاحه وينغمس في قلب المعركة ، كان دائماً أولاً في كل المعارك ، وأصيب في بطنه أول مرة ، ونقل إلى المشفى الميداني ، وهو تحت تأثير المخدر يتحدث عقله الباطن " اللهم ارضَ عني وعني المجاهدين ، اللهم لا رياء " ..

وفي المعركة الأخيرة بعد قرابة ثلاثة سنوات من الثورة السورية ، ومن قمة جبل الشيخ يؤازر أبو مصعب ، عدة فصائل قد هاجمت تل حربون (قرب عرنة) في أعلى قمة جبل الشيخ حيث المرصد السوري المقابل لمرصد العدو الإسرائيلي ، رغم أنّه قادمٌ من سفر ومتعب قبل عدة ساعات فقط ! ، ولكنه رفض إلا أن يشارك في المعركة ، وأثنائها أصيب أخوه الأصغر " مصطفى" وظنّ أنه قتل ، فودعه ، وقال للشباب خذوه تقبله الله ، وعاد للمعركة وقاتل حتى قتل وهو 17 آخرين في أعلى جبل الشيخ ، بعد مؤزرات كبيرة من قبل شبيحة عرنة والقلعة والمناطق المجاورة .


لقد كان رحيل الحجي أحمد موجعاً ، بنفس الأيام التي رحل فيها حجي مارع القائد عبد القادر الصالح . حجي مارع والذي تغنت به كل سورية ، لروعته ونزاهته وطيبته وبساطته

لقد كان حجي قطنا أيضاً تاجراً قبل الثورة ، ملتزماً ، خلوقاً ، محبوباً ، لم يخرج ليجمع المال ، ولا لينفذ أجندةً هنا ، أو أيديولوجيا هناك ، يحب الإسلام وقتل لأجله ، حتى أنه سأل بمقابلة له عن رؤيته لبناء الدولة بقوة السلاح أم بطريقة مدنية بعد إسقاط النظام فقال : " سلفنا الصالح فتحوا القلوب قبل الحصون ، والأصل في عملنا هو الدعوة والنصح والتسامح ، أما سلاحنا بعد إسقاط النظام فسيكون بيد الدولة العادلة والتي بدورها ستقوم بمحاسبة المخطئ ... "


لقد كان أبو مصعب ليس عالماً أو شيخاً ولكنه تكلم بفقه واقع ، لم يلبس أفغانياً ، ولم يطل لحيته ، بقي كما عرفناه قبل الثورة ، يمزح مع الكل ، لا تفارقه الابتسامة أبداً ، لم يتغرب عن أهله وأصدقاءه ، لم يغير اسمه ، لم يكن شبحاً لا يُرى .


كل الأفعال الماضية تمارس عبر جملها حكايات وحكايات عن رحيله لتذكرنا به ، مع أننا لم ننساه ، لم ننسى هتافاته ، لم ننسى صوته ، بحته ، أناشيده ، كلماته ، حركات يديه ، أسلوب قتاله ، إيجابياته ، أخطاءه ، إنسانيته ، معروفه ، عرض منكبيه ، لحيته ، لعبه معنا كطفل صغير ، تدريبنا الصباحي ، أهازيجه ، نكاته ، غضبه ، فزعته ، فخاره ، سرعة بديهته ، إيقاظه لنا في صلاة الفجر ، تقديمه لمن هو أحقُ منه بالصلاة ، قراءة القرآن ، شرب الشاي قرب مدفأة الحطب ، مع خبز القمح والشعير البلدي ، أو عسلٌ أتى له هدية ، هي تفاصيلٌ لا تنسى


أحب تفاصيل التفاصيل مع أبو مصعب ..


لا تُنسى أمهُ من فقدت أول شهيد أمجد ولحق به أحمد بعد عامٍ ونيف ، أحمد لم يكن باراً عادياً بأمه ، لقد كان براً ممزوجاً بالقيم ، يقبل قدميها ، يسامرها ، وهي تضحك مستبشرة ، هي من أرسلته للجهاد ، هي من دفعته أكثر ، هي خنساءٌ سوريةٌ لا مثيل لها ، لابد للبطل أن تكون أمهُ بطلة ، بل منشأ أبطال ، أم محمود ليست أي امراءة ، وجهٌ كالبدر الصافي ، عزيمةٌ صلبة ، وقلب لا أطيب ولا أحن ..

يوم سمعت خبر استشهاد أحمد وبين يديها أخوه الجريح ، بكينا نحن أمامها ، لم نستطع أن نمسك دموعنا ، لم نستطع ألا نبكي ، وهي لا تبكي ، بل تُهدِأُ من صدمتنا ، وتزغرد ، لكي يرى العالم كله أمّ الشهيد ، أم الشهداء ، إحدى أسطورات سورية وثورتها ، تزغرد للأبطال .. أبوه أيضاً كقاسيون لم يصدق أنّ أحمداً يمكنه الرحيل دون أن يعانق أباهُ ألف عام وعام ..


حجي أحمد لم يرحل من الذاكرة على مدار عام ، كل يوم يمرُ من أمامي ، كل يوم يتجول في قطنا ، في بيت جن ، في القنيطرة ، خان الشيح ، جبل الشيخ ، في المزة ، في الحلالة . أبو مصعب شهيد يصعبُ نسيانه ، يصعبُ عليك أن تنام دون أن تراه في منامك مسجى في روضة من ياسمين شامي ، وزنبق وريحان ، حوله النور واللؤلؤ ..


حقاً أحمد لم يمت إنما ذهب إلى الله ، وسنراه كل يوم ، وستذكره الثورة السورية بأنبل أيامها وأروعها .. صدقاً لن ولم لا ينسى أحمد ...


كتبت هذه القصة في ذكرى استشهاد القائد أحمد سعيد القادري في 6 تشرين الأول 2014 لصالح جريدة زمان الوصل

قصص ذات صلة

قصة الشهيد أمجد سعيد القادري
قصص الشهداء

قصة الشهيد أمجد سعيد القادري

اقرأ المزيد
قصة الشهيد محمد داوود
قصص الشهداء

قصة الشهيد محمد داوود

اقرأ المزيد